زايوتيفي / اسماعيل الحلوتي
بكل السذاجة الممكن تصورها، اعتقد الكثير من المغاربة أنهم بدحر المحتل الفرنسي الغاشم وإنهاء الاستعمار البائد، ستنتهي حتما معاناتهم وينبلج فجر عهد جديد، تتحقق فيه انتظاراتهم وكل ما يتطلعون إليه من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية. بيد أنه مع مرور السنوات بدأ ذلك الخيط الرفيع من الأمل يتلاشى أمام عيونهم. ورغم أن المغرب قطع خطوات مهمة في ما يرتبط بالتشريعات والقوانين، فإن ذلك لم يواكبه تحسين ظروف العيش، حيث تدهورت أحوالهم وتراجع مستوى الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة وغيرهما، وارتفعت نسب الفقر والأمية والبطالة، واتسعت الفوارق الاجتماعية والمجالية، بفعل استشراء الفساد والتدبير السيء للشأن العام.
فعلى النقيض مما كان مرجوا تفاقمت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وضعفت القدرة الشرائية أمام الغلاء الفاحش وتجميد الأجور والإجهاز على المكتسبات، جراء فشل السياسات العامة للحكومات المتعاقبة، لاسيما منها تلك التي جاءت بعد « الربيع العربي » بقيادة الحزب الإسلامي « العدالة والتنمية »، وإقرار دستور 2011.
وكان طبيعيا أن يطفو على السطح كثير من المهن الحرة وغيرها، عقب ما حدث من تطورات وتحولات اجتماعية وضيق ذات اليد، ويتنامى معدل السرقة والسطو على الممتلكات الخاصة والعامة، مما فسح المجال أمام مقتنصي فرص الاغتناء السريع في ابتكار أساليب جديدة، مهدت لظهور أشكال أخرى من استغلال البشر، نجد من بينها مهنة ما بات يعرف ب »سكيريتي » أي حراس الأمن الخاص. وهم فئة من « العبيد » الجدد في القرن الواحد والعشرين، حيث تمارس عليهم مختلف ألوان الاستغلال، مما يلاقونه من قهر مادي ومعنوي، على أيدي بعض « المستعمرين » الذين لا يحسنون عدا استنزاف خيرات البلاد وطاقات العباد.
والعبودية لغويا هي الخضوع التام والطاعة العمياء، ويقصد بها اصطلاحا امتلاك الإنسان للإنسان، أي ما يسمى بالرقيق، والرقيق أو العبد هو كل إنسان محروم الأهلية، يكون مملوكا كله أو بعضه لغيره. وفي هذا الصدد يؤكد المفكر الأمريكي الشهير ناعوم تشومسكي في كثير من المناسبات على الفروقات البسيطة بين عبودية الرقيق وعبودية الموظفين أو المستخدمين، إذ يقول في أحد لقاءاته بأن: » في القديم كان الرقيق يباعون ويشترون، بينما صار البشر اليوم يؤجرون، ولا يوجد فرق كبير بين أن يبيع الإنسان نفسه وبين أن يؤجرها ». فبأي استقلال نفتخر بتحقيقه وأوضاع البلاد والعباد في ترد متواصل، ومازال يعيش بيننا أناس مستعبدون في البيوت والضيعات والمحلات التجارية والمؤسسات الخاصة والعمومية وشبه العمومية، وفي الفنادق والمقاهي والمطاعم والمستشفيات وغيرها… من أجل تأمين لقمة عيش بئيسة؟
ومن جملة أسباب الظهور المباغت لشركات حراس الأمن الخاص والمنظفات بهذا الزخم الكبير، نجد أن هناك عدة اعتبارات، يأتي في مقدمتها ارتفاع نسبة البطالة حتى في صفوف خريجي مراكز التكوين المهني والكليات، إقدام الدولة على حذف السلالم الدنيا والكف عن تشغيل الأعوان المكلفين بمهام الحراسة والتنظيف داخل الإدارات العمومية، خاصة في المؤسسات التعليمية والمراكز الاستشفائية، فضلا عما عرفه المغرب من هجمات إرهابية في 16 ماي 2003 بمدينة الدارالبيضاء، وما بات يتهدده من أعمال تخريبية. حيث سارعت الشركات والفنادق والكثير من المؤسسات إلى طلب الاستعانة بخدمات هذه الشركات في حراسة وحماية مقراتها عبر التعاقد معها. مما شجع عديد المقاولين على الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الهام.
فإحداث شركات خاصة تشرف على تقديم خدمات في الحراسة والمراقبة والتنظيف أيضا لفائدة مؤسسات عمومية أو شبه عمومية أو مؤسسات خاصة أو أسواق تجارية أو وحدات سكنية… والسهر على راحة وسلامة الأشخاص بداخلها، يعتبر من المبادرات المحمودة التي يتعين تثمينها، شريطة التصريح للمصالح المختصة بوزارة الداخلية بنوعية نشاطاتها وعدد مستخدميها. وأن تعمل في ذات الوقت على التقليص من جحافل المعطلين التي عجزت الحكومة عن خلق فرص شغل ملائمة لصالحهم. لكن من غير المقبول أن تصبح هذه الشركات « بعبعا » يمتص دماء الأبرياء، وتحويلهم إلى مجرد عبيد. وإلا فبأي حق تلزمهم بالإمضاء على عقود شغل والمصادقة عليها لدى السلطات المحلية، دون منحهم فرصة الاطلاع على مضامينها وبنودها والاحتفاظ بنسخ منها، أو تسلميمهم شهادات عمل عند اللزوم؟
ومما لا شك فيه أن قطاع حراس الأمن الخاص أضحى ملاذا ليس فقط للشباب، بل حتى للمتقاعدين ذوي المعاشات الهزيلة وغيرهم من الأرامل والمطلقات، وهو ما يمكن اعتباره قيمة مضافة في مجال البحث عن مورد رزق، لكن هذا لا يستطيع حجب حجم معاناة هؤلاء المستضعفين، مما يتعرضون إليه من انتهاكات، وتدني أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، هزالة الرواتب التي لا ترقى إلى مستوى الحد الأدنى للأجور، الإلزام بتجديد العقود كل ستة شهور للحيلولة دون ترسيمهم، التهديد المستمر بالطرد، العمل لمدة 12 ساعة يوميا بدون انقطاع طوال الأسبوع، عدم الاستفادة من أي تعويضات مادية أو الرخص المرضية أو العطل الأسبوعية أو السنوية أو الأعياد الوطنية والدينية، الحرمان من التأمين الصحي أو التأمين عن المخاطر المحدقة بهم، أو الانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…
إن حراس الأمن ليسوا سوى نموذجا لآلاف المستضعفين الذين يجسدون الاستعباد في أبشع تجلياته. وإذا كنا لا نعارض دعم المقاولات بشتى أنواعها وتشجيع الاستثمار، بما يساهم في تقليص معدل البطالة وتعزيز التنمية البشرية، فإننا نطالب السلطات المختصة بمزيد من التشريعات والقوانين، والسهر على تنفيذها بشكل يحفظ حقوقهم ويصون كرامتهم، ويحول دون الاستمرار في الاستغلال الوحشي القائم.