زايوتيفي.نت
حمدون شوراق مقاوم مغربي، أبلى البلاء الحسن في الثورة الجزائرية وفي الصفحات التالية ستنقطف من كتابه «الباخرة دينا» تفاصيل عن إشرافه بالتنسيق مع محمد بوضياف على إنزال السلاح بشاطئ الناظور في يونيو 1959. ومنذ تلك العملية لم يفترق مصير شورق عن مصير بوضياف. وفي اليوم الذي نودي على القائد الجزائري بنقل من القنيطرة إلى الجزائر العاصمة لكي يستلم مقاليد الرئاسة اتصل حمدون شوراق بمنزل صديقه في القنيطرة، فوجده قد غادر إلى المطار. فعمل على أن يوصي الإبن الذي رد عليه بالهاتف: أبلغه أن يحذر.
ولا يحتفظ بنفس الحراس الذين كانوا في الرئاسة مع من سبقوه. فلم يتمكن من الكلام مباشرة مع صديقه الكبير. ولكن قلبه ظل يخفق مع رفيق الدرب، وانطوى على حزن عميق حين وصله الخبر الفاجع الذي تألم له المغاربة جميعا. وكان حمدون شوراق قد أفضت به التجارب وظروف ما بعد الاستقلال إلى الجزائر نفسها حيث كان يؤلف مع جمع من المقاومين فريقا من اللاجئين من ضحايا سنوات الرصاص. نشأ حمدون شوراق في بيئة وطنية مشبعة بذكريات النضال التي عاشتها المنطقة مع الشريف أمزيان والأمير الخطابي.
وخطا خطواته الأولى في حزب الاصلاح الوطني وذلك منذ أواخر الثلاثينيات. ولد حمدون في 1924 بقبيلة كبدانة، وبعد تلقيه العلوم الدينية الضرورية لاستكمال مقومات المواطنة اشتغل بالتجارة على طول نهر ملوية حيث كان يتاح له أن يحيك علاقات واسعة مع جمهور متنوع من المنطقتين الاسبانية والفرنسية وحتى من وراء الحدود المغربية الجزائرية إذ أن المنطقة كلها ذات ترابط قوي.
وقد امتدت تجارته مع الجزائر منذ 1945. وذلك عبر بركان ووجدة ومع السلع كانت تنتقل الجرائد من الجانبين، وحينما أنشأ حزبه جريدة «الأمة» في تطوان كان متعهدا لها في الناظور وما جاورها، وكان يوصلها إلى الجزائر هي وجريدة «النهار»الصادرة كذلك بتطوان، ومنذ وقت مبكر نسج علاقات ثقة مع عدد من الوطنيين في المنطقة المجاورة، وتعلم أن يحذر من دسائس الجواسيس والعملاء.
وهؤلاء كان منهم من يعمل للإسبان وآخرون للفرنسيين ومنهم المزدوج، وفي وقت مبكر زج به في السجن لمدة شهر بالناظور ثم نقل إلى سجن (واد لاو) بالقرب من تطوان وحينما أفرج عنه عاد إلى رأس الماء ليتابع عمله التجاري وكذلك لإنشاء عدة خلايا لحزب الاصلاح الوطني. وتوصل برسالة من زعيم الحزب الأستاذ الطريس بتاريخ 21/5/1952 ويثني فيها على نشاطه ويشجعه علي مضاعفة المجهود.
وأنشأ ما لا يقل عن 12 خلية كل واحدة منها تتألف من 15 إلى 20 فردا، يذكرها بالتفصيل في كتابه «الباخرة دينا، مذكرات من إبان المقاومة» (أنظر ص 33). وتطورت علاقاته حينما تعرف على بنعبد الله الوكدني من وطنيي بركان الذي فاتحه في شأن مهاجمة مقهى هناك يطرقه الفرنسيون ويقول شوراق إنه تحمس لذلك. وكلف اثنين من رجاله لتنفيذ العملية.
وقام الفدائيان بالتنفيذ وعادا في اليوم التالي إلى منطلقهما ، وفي خريف 1954 جاءه عضو في خلية سرية لحزب الاصلاح الوطني اسمه محمد البركاني، وأخبره بأن هناك رجلين يبدو أنهما من الجزائر يسألان عنه، أي عن حمدون شوراق.
وظن أن الأمر يتعلق بغرض تجاري. ولكن الرجلين وهما محمد بوضياف والعربي بلمهيدي فاتجاها في موضوع خاص وهو المساعدة على إنزال سلاح في الساحل قصد تهريبه فيما بعد إلى الجزائر لاستعماله في أغراض نضالية.
ولنترك الكلمة لحمدون شوراق كما رواها في كتابه المذكور، حينما يذكر أنه التقى بالمناضلين الجزائريين بواسطة الكعواشي الذي كان بدوره لاجئا من وجدة. وتم تدبير انتقال «الضيفين» بعيدا عن أنظار السلطات الاسبانية وجواسيسها:
(تحويل السلاح إلى مخابىء أكثر أمنا)
ذكرت أن الأسلحة لما أنزلت من الباخرة وضعت بعضا منها في منزلي وبعضها في منزل صهري بوراس محمد بصفة مؤقتة، حيث لم تمض أكثر من 24 ساعة من الزمن على هذه الحال حتى أضحيت أفكر في طريقة يجب أن تكون محكمة ومضبوطة لوضع هذا السلاح في أماكن تكون قارة أكثر أمنا بعيداً عن عيون المراقبة ووسائل التفتيش التي كان يقوم بها الاستعمار في منازل السكان والأهالي.
كنت على يقين تام بأن القائد بلخير قائد مركز رأس الماء لن يهدأ له بال في التجسس على الوطنيين من أبناء القبيلة ومحاولة العثور ولو على أتفه الأسباب لتبليغ وشاية أو تلفيق تهمة ما يقدمها للسلطات الإسبانية، لتعزيز جانبه مع الإسبان، وترسيخ منصبه كقائد.
كانت الباخرة دينا لاتزال جاثمة في مكانها، ولاتزال مهمتها محفوفة بالغموض من طرف السلطات الإسبانية وأيضا الفرنسية التي بالتأكيد ستكون على علم بتواجد هذه الباخرة بشاطيء كبدانة، وذلك عن طريق عيونها وجواسيسها في كل مكان، علما بأن منزلي ومنزل بوراس محمد يقعان على مقربة من الطريق العمومي الرابط بين مدينة الناظور ومركز رأس الماء وحينما كنت بمنزل محمد بوراس حضرتني فكرة نقل وتحويل هذه الكميات من الأسلحة إلى مكان آخر أكثر أمنا وسلامة.
وبإلهام من اللّه سبحانه وتعالى اهتديت إلى فكرة توجيه رسائل مكتوبة من طرفي إلى أربعة رجال من رفاقي مكلفين بمهام تسيير خلايا الحزب بالقبيلة، ويتعلق الأمر بالسادة: ـ أحمد حدوش عن جماعة أولاد موسى ـ عمرو شوظنة عن جماعة لهرافيف اولاد حمو عمرو ـ محمد أعراب عن جماعة أولاد بوعرفة ـ محمد بوراس عن جماعة سيدي إبراهيم
وقد طلبت من كل واحد منهم أن يجمع تسعة رجال هو عاشرهم، وأن كل واحد منهم من كان يملك دابة أن يصحبها معه، وأن يكون لقائي بهم في مكان حددته لهم، وأن تكون كل مجموعة على حدة، ولاتعلم شيئا عن المجموعات الأخرى، مع اختلاف في الزمن والمكان لكل مجموعة، حتى أضمن سرية العمل ونجاحه.
وعندما حان الوقت المحدد لكل مجموعة، أنجزت لقائي معها في الموعد المتفق عليه بالتتابع وطلبت من الجميع اتباع أثري والمشي خلفي على عجل وبكل حذر والتزام الصمت التام دون أن يعرف أي أحد منهم إلى أين أقودهم، ولا القصد من دعوتهم في هذا الليل كما لم يجرأ أي أحد منهم ليسألني عن الهدف الذي دعوتهم من أجله، وكنت أنا في هذه الأثناء أعيش في دوامة الهواجس والوساوس وأسأل نفسي إذا ما رأى هؤلاء الرجال السلاح بتلك الكمية التي لم يسبق لهم أن رأوها من قبل ثم لاذوا بالفرار فما عساي أن أصنع؟ وكيف لي بعد ذلك أن أتحكم في الأمر، وأن أضمن سرية هذا السلاح، لكن هؤلاء الرجال الأربعين ما أن رأوا تلك الكمية من الأسلحة حتى علت وجوههم البشرى وازدادوا حماسا واستعدادا تعلو ملامحهم الثقة بالنفس وارتفاع في المعنوية لا حدود لها، فحمدت الله تعالى أن وفقني وشد عضدي برجال على هذا المستوى من الإخلاص والتفاني في أداء الواجب الوطني، والاستعداد للتضحية بدون رياء أو مقابل مادي إلا تلبية لنداء الوطن والجهاد ضد الكفار.
قلت فقد اندفع هؤلاء الرجال يحملون صناديق السلاح حتى أن الرجل منهم يضع صندوقين على ظهر دابته ثم يعمد إلى صندوق ثالث فيحمله هو على كتفيه.
كان نصيب كل واحد منهم ثقيلا حيث حملوا مجموعات من الصناديق الكبيرة التي تحتوي على الرشاشات ذات القوائم. وهذه الرشاشات ثقيلة من حيث الوزن وكبيرة من حيث الحجم. وكان عددها بين 6 إلى 8 رشاشات، حملوها على ظهر الدواب، وتوجهت في صحبتهم إلى مزرعة عريضة كان زرعها مسنبلا ومتماسكا. فأمرتهم بوضع الحمولات بجانب الزرعة والتوجه إلى صاحب المزرعة ويدعى (محمد بلعمران) وولده (محمد) وكانا من أعضاء خلية الحزب، فأمرتهما بنقل تلك الحمولات إلى وسط المزرعة والقيام بحراستها طول النهار وكأنهم يقومون بطرد أسراب الطيور التي تفسد السنابل ومنع أي شخص كيفما كان نوعه من دخول المزرعة سواهما، وبذلك تمكنت من نقل الأسلحة التي كانت بمنزل صهري محمد بوراس وهي صناديق للمسدسات والرشاشات في الليلة الثانية من مجيء الباخرة.
أما السلاح الذي كنت قد وضعته في منزلي فقد تركته في مخابئه لعلمي ويقيني أنه لن يجرأ أي أحد على اكتشافه. بعد إنجاز هذه العملية رجعت إلى منزلي لأحد الرجال الأربعة ينتظرونني في بيت مظلم فأوقدت شمعة وتفرست في وجوههم من جديد، وكان الوقت النصف الأخير من الليل فدونت أسماءهم في لائحة خاصة وراجعت أسماء رجال هاته المجموعات واحدا واحدا فلاحظت أن مجموعة تتشكل من تسعة أشخاص فقط استفسرت عن الشخص العاشر وعن اسمه فقيل لي بأن اسمه (اءوشيخ ميمون) وقد رآه بعضهم يحمل على ظهره قطعة من الخشب لأحد صناديق السلاح توجه بها إلى منزله، وقد ساورني الشك في أمره، فأمرت جماعة بمراقبته متى خرج من منزله وإلى أين سيتجه ومع من سيتصل، إلا أنه لازم منزله ولم يبرحه طيلة فترة من الزمن، وقبل أن نفترق ألقيت على هؤلاء الرجال الأسئلة التالية: – فأجابني أحدهم قائلا: لم نر سلاحا بل حملناه على أكتافنا.
– قلت ما عقوبة إفشاء سر السلاح؟ – وحينما لم يجب أي أحد قلت أن السلاح يساوي الموت في كل الحالات، فكونوا على حذر تام، وعلى جانب كبير من اليقظة والحيطة، إن عملكم هذا جليل وسيكتبه لكم التاريخ بمداد الخلود، فلا تضيعوا عملكم في هفوة من الهفوات، أو نزوة من النزوات، وأمرتهم بالانصراف إلى منازلهم.
بينما احتفظت بستة من الرجال لأطلب منهم العودة إلى يوم الغد وحدهم دون أن يخبروا أي أحد أيا كان وحددت لهم موعدا للقاء وهو الحادية عشرة ليلا وأن يكونوا مصحوبين بدوابهم، وبعد ذلك عدت إلى منزلي وحاولت أن أسترد بعض الراحة، إلا أن الهواجس ظلت تخامر نفسي حول ما إذا وصل خبر هذا السلاح إلى السلطة الاسبانية وأخطر منها ذلك القائد (بلخير) الذي لا يهدأ له بال في البحث واستنشاق أية رائحة أو خبر من هنا وهناك، حول أمر تلك الباخرة الجاثمة بشاطئ القبيلة، والمهمة التي جاءت من أجلها، والموقع الذي أصبحت قابعة فيه، إلى جانب بحارتها المصريين وقبطانها الأوروبي. فالقائد بلخير لا يدع أي شيء يقربه من الإسبان ويعزز سلطته كقائد في المنطقة.
وقضيت اللحظات المتبقية من الليل في دوامة من الشكوك والأوهام والافتراضات، وفي الليلة الموالية توجهت في الموعد المحدد للقاء الرجال الستة في محطاتهم الثلاث، فوجدتهم قد حضروا بالفعل ومعهم دوابهم، وقمت بتقسيم حمولات السلاح إلى ثلاثة أقساط، قسطان يحتويان على بنادق عشارية ورشاشات متوسطة المدى وصناديق للقنابل اليدوية كلفت أربعة رجال بحملها والاتجاه بها إلى منزلي بالجبل على بعد مسافة خمس كيلومترات، وحددت مكانين ينتظرني فيهما رجلان فقط على أن يبتعد كل واحد عن الآخر بمسافة محددة درءاً لكل اشتباه أو مفاجأة.
وأمرت الاثنين الآخرين بالانصراف إلى حال سبيلهما بعد ذلك، أما القسط الثالث فكان عبارة عن ذخيرة حية أمرت رجلين بحملها على الدواب وتوجهت رفقتهم إلى منزل السيد عمر محمد حمو، حيث وضعت عنده هذه الحمولة.
وذلك بسبب كلمة تفوه بها لامرأة حينما قال لها إنه متعب وأنه قد سهر الليلة الماضية دون أن يزيد عن هاته الكلمة. وبمجرد ما تفوه بهذه الكلمة وصلتني في تلك اللحظة فكان لزاماً علي أن أضع تلك الكمية من الذخيرة في منزله حتى لا يتفوه بكلمة أخرى. وأذكر أنه قبل الوصول إلى منزل السيد (عمر محمد حمو) تحتم علينا استعمال الطريق العمومي الرابط بين مركز رأس الماء ومدينة الناظور لمسافة خمس كيلومترات تقريبا ولتأمين مرور قافلتنا في هذه الطريق.
وضعت رجلين يقومان بالحراسة أحدهما شرق الطريق والآخر غربها مسلحين يمنعان كل شخص قد يلتقينا من الشرق أو يلتحق بنا من الغرب فيكتشف أمرنا أو يبلغ عنا وحينما انطلقت القافلة في السير تحت جنح الظلام وأنا أسير معها إذ لاحظت وجود شخص غريب يمشي وسط القافلة وعندما شعرت بوجوده اعترضت سبيله فأوقفته وفصلته عن القافلة وانزويت به إلى مكان بجانب الطريق.
وهناك حاورته بأسلوب تهديدي وألفاظ ممزوجة بطابع العنف، فسألته عن اسمه ومكان إقامته، فأخبرني بأنه يدعى (ولد المنور)، وأنه يسكن شرق ملوية بمنطقة النفوذ الفرنسي، وأنه يجاور منزل (أحمد الريح) ومنزل أحمد الريح هذا يجاور بدوره مركزا للمراقبة تابعا للسلطة الفرنسية. فازدادت شكوكي في أمره وسألته عن وجهته في هذا الوقت من الليل فأخبرني بأنه متوجه إلى منطقة سيدي إبراهيم بقبيلة كبدانة حيث يملك مزرعة هناك وأنه يقوم بتفقدها لمعرفة ما إذا حان وقت حصادها، لأنه لا يستطيع المجيء إليها في واضحة النهار لأن السلطة الفرنسية، تمنعه من الدخول إلى منطقة النفوذ الإسباني إلا بترخيص – كما كان عليه الحال وقتئذ – ولا أخفي أنني في بادئ الأمر كنت قد استبدت بي الشكوك في أمر هذا الشخص إلى درجة أنني قد وضعت يدي على مسدس كنت أحمله معي لتصفيته خصوصا لما علمت أنه جاء من المنطقة الخاضعة للنفوذ الفرنسي ويسكن بجوار منزل أحمد الريح أي بجوار مركز للسلطة الفرنسية، ولعلمي أن عددا من الجواسيس والعملاء تبعث بهم السلطة الفرنسية الى المنطقة لاصطياد العناصر الوطنية أو القيام بجمع المعلومات عن أي شيء يروج بالقبيلة وتتبع أخبار اللاجئين من المنطقة الشرقية، واشترطت على هذا الشخص أن يأتيني كل يوم خميس وهو يوم السوق الأسبوعي برأس الماء ليخبرني عن الأشخاص الذين يتجسسون لفائدة السلطة الفرنسية سواء من منطقة راس الماء أو من المنطقة الواقعة تحت السلطة الفرنسية.
وقد مانع في بادئ الأمر مخافة تعرضه للانتقام من هؤلاء أو من السلطة، لكني لما ألححت عليه تحت التهديد والوعيد، قبل بذلك وحددت له مكان اللقاء في السوق المذكور. وقد تعمدت إطالة الحديث معه حتى تتكفل القافلة بقطع المسافة المتبقية لها للوصول الى هدفها. ولما تأكدت من ذلك أخليت سبيله مؤكدا عليه ضرورة اللقاء بي يوم الخميس بمركز رأس الماء. ثم توجهت الى الحارس الذي عبر من جهته هذا الشخص ، فاعتذر لي بكونه قد غشيته سنة من النوم فلم ينتبه إليه.
فقبلت عذره لعلمي بأنه قد عانى الشيء الكثير في هذه العملية، فقد كان ملازما لي كظلي لا يفارقني إلا نادرا طلية عمليات الأعداد والتحضير. وقد سبق أن كلفته بعدة مهام جسام فلم يتهاون أو يتخاذل في أدائها على الوجه المطلوب. ثم التحقت بالقافلة فوجدت أن الرجلين قد أنجزا مهمتهما وذهبا إلى حال سبيلهما كما أمرتهما بذلك.
لكن صاحب المنزل عمر محمد وجدته هو ووالده حائرين في أمر هاته الصنادق التي وضعتها في منزله، فأمرته بفتح مطمورة وسط المنزل، ووضعنا فيها تلك الحمولة بعد القيام بعملية الصيانة حتى لا تتعرض للصدأ وأحكمنا إغلاق المطمورة وأوصيته هو وأولاده بالكتمان وعدم اطلاع أي أحد على هذا الأمر كيفما كان نوعه. فالتزما لي بذلك، ثم التحقت بالقافلتين المتوجهتين الى منزلي حسب الخطة التي أمرتهم بها.
وتستهدف هذه الخطة أن يتم نقل السلاح وتأمين إخفائه بواسطة مجموعات من الرجال وكل مجموعة لا تعرف شيئا عن المجموعة الأخرى، ولا إلى أين تنقل ذلك السلاح ولا مكان تخزينه والمنزل الذي وجهت إليه القافلتين في تلك الليلة كان عبارة عن أطلال وخرائب وبقايا أسوار في ملك آبائي وأجدادي. وقد وجدت رجلين منهم قد ذهبا الى حال سبيلهما كما أمرتهما، وبقي الإثنان اللذان أوصيتهما بانتظاري بدوابهما وهما السيد محمد حدوش والسيد سرار علي. وقمنا بتخزين هاته الحمولة بطريقة محكمة.
وشكرت الرجلين عن عملهما وأوصيتهما بالكتمان التام. وقد بقي هذا السلاح في مخازنه مدة ثلاثة أشهر ونصف تقريبا بعد أن قمت بطلائه بمواد ذهنية تحفظه وتصونه من الصدأ والتآكل.
أما فيما يرجع للأسلحة التي أخفيتها في مزرعة السيد بلعمران وكلفته مع والده بحراستها ومراقبتها فإن هذين الرجلين قد قاما بواجبهما أحسن قيام وبكل شجاعة وإخلاص. وعملا على نقل تلك الأسلحة بسرية تامة وإخفائها في منزلهما الذي يوجد على مقربة من منزلي بمسافة نصف كيلومتر تقريبا وهي أسلحة جد مهمة، إذ كانت تتألف من رشاشات ذات قوائم، وتعتبر في ذلك الوقت سلاحا متطورا ذو فعالية كبيرة، وهذا السلاح قد تم نقله فيما بعد إلى منزلي حيث الأطلال والخرائب وألحقته بالسلاح الأول بعد أن أخضعته للمواد المضادة للصدأ شأنه شأن بقية الأسلحة، وأحكمت عملية التخزين بطريقة محكمة لا تثير أية شبهات سواء لعابر السبيل أو للسلطات المحلية وإن قامت بالتفتيش عنه، وبذلك شعرت بأن ضميري قد ارتاح، وهواجسي قد تبددت، وشعرت بالإطمئنان التام، فتوجهت بأكف الضراعة والدعاء الى العلي القدير الذي وفقني في إنجاز هذا العمل الجهادي رغم الظروف الصعبة والعراقيل الكثيرة والمتنوعة وما تخلل ذلك من مفاجآت ومشاكل وعقبات وقد تم اجتياز كل ذلك بحمد الله مع قوته الذي آزرني برجال كانوا لي جنودا في السراء والضراء.
فلم يتراجع أي أحد منهم عن القيام بمهمة أوكلتها إياه، أوامر أمرته بها، وعلى رأس هؤلاء المجموعة المتكونة من أربعين رجلا والذين وقفت بهم على غير علم منهم على كميات الأسلحة فشاهدوها بأم أعينهم، فقد كانت بشكل يرعب القلوب ويرهب الأفئدة، فلم يكن ما شاهدوه قطعة أو اثنتين بل كانت كميات متراكمة يمكن أن يتسلح بها جيش بكامله، فما زادهم ذلك إلا إيمانا وعزيمة وإصرارا على أداء الواجب الوطني.