زايوتيفي – متابعة
سلط الصحافي المغربي علي بنستيتو، صاحب التجرية الكبيرة في الشرق الاوسط، الضوء من خلال سلسلة مقالات جديدة ينشرها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وتعيد كشـ24 نشرها باتفاق معه، على العلاقات المغربية الإسرائيلية بين الأمس واليوم وذلك بالتزامن مع التطورات التي تعرفها هذه العلاقات مؤخرا.
الحلقة 2
علي بنستيتو
كما سبق لي الإشارة في مقدمة هذه الحلقات، العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، ليست مسألة جديدة، بل سبق أن كانت قائمة في العلن وبشكل رسمي ،خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، وكان ذلك في إطار توجه عربي ودولي يروم إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، كما أن الخطوة المغربية في ذلك الوقت كانت بمباركة عربية وفلسطينية، حيث أتذكر أن مبعوثين سامين من الدولة المغربية كانوا ينقلون رسائل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في إطار تسهيل المفاوضات، دعما للموقف الفلسطيني، بغية إحراز تقدم في مسيرة التسوية على أساس اتفاقية “أوسلو”.
إذن، في خضم تلك الأجواء التي كانت تبشر بقرب بزوغ فجر جديد ليعم السلام في الشرق الأوسط ويحقق الشعب الفلسطيني ما كان يصبو إليه ، جاءت مبادرة المغرب بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني، الذي لعب دورا فعالا في تقريب وجهات النظر بين الأطراف، بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ، حيث قام وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز بزيارة المغرب في شهر سبتمبر 1994 ليشرف بشكل رسمي على افتتاح أول مكتب اتصال إسرائيلي بالرباط ، فيما قامت الرباط بفتح مكتب اتصال مغربي في تل أبيب وآخر في غزة سنتي 1995 و1996 .
تعود أول زيارة لي إلى الأراضي الفلسطينية إلى صيف 1994 ، عندما كلفتني الوكالة بمهمة تغطية عودة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى أرضه فلسطين، حيث دخلت قطاع غزة من المعبر الحدود “رفح”، قادما من القاهرة، بعد حصولي على تأشيرة من السفارة الإسرائيلية بالعاصمة المصرية.
شكلت عودة عرفات إلى الوطن الفلسطيني حدثا تاريخيا بامتياز، سواء بالنسبة له شخصيا أو بالنسبة للشعب الفلسطيني، إذ جاءت بعد قضائه 33 سنة في المنفى الاختياري، خاض خلالها شتى أنواع الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، كفدائي متخفِ في دهاليز المقاومة ودروبها المتشعبة، ومتنقلا بين عدة دول ومناطق داخل فلسطين وخارجها، من مصر إلى الأردن ومن لبنان إلى تونس، تتعقبه الآلة المخابراتية الإسرائيلية بهدف القضاء عليه، باعتباره كان يمثل العدو رقم 1 بالنسبة لدولة الاحتلال، بعدما تمكنت من اغتيال العديد من رفاقه في الكفاح، الواحد تلو الآخر، سواء في لبنان أو تونس أو فلسطين أو في أماكن أخرى.
يذكر أن عودة عرفات إلى أرض فلسطين جاءت تنفيذا لاتفاق”أوسلو”، الذي التزمت بموجبه منظمة التحرير الفلسطينية بالتخلي عن خيار المقاومة المسلحة والاعتراف بإسرائيل، مقابل اعتراف هذه الأخيرة بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، ومن ثم انخراط الجانبين في المفاوضات من أجل الاتفاق على إقامة سلطة حكم ذاتي فلسطيني في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، كمرحلة انتقالية في أفق التوصل إلى الاتفاق على الوضع النهائي، بعد حل القضايا الشائكة، مثل القدس وقضية اللاجئين وشكل الكيان الفلسطيني، حيث كان الفلسطينيون والعرب يراهنون على أن تؤدي تلك المفاوضات في نهاية المطاف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، تتعايش في سلام جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وبذلك مثلت عودة عرفات محطة رئيسية في مسلسل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وثمرة لجهود أطراف دولية وعربية، ضمنها الدور الذي كان يقوم به الملك الراحل الحسن الثاني، للتقريب بين إسرائيل والقادة العرب عموما، وبين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، على وجه الخصوص. صادف يوم العودة ، فاتح يوليوز 1994 ، يوم السبت اليهودي، فوضعت خلاله سلطات الاحتلال جميع الأراضي الفلسطينية تحت الحصار كمنطقة عسكرية مغلقة، مانعة التنقل بين المحافظات الفلسطينية.
كان يوما تاريخيا بكل المقاييس، تقاطر على معبر رفح ، الذي اختار الزعيم أبو عمار الولوج من خلاله إلى أرض أجداده ، مئات الصحفيين والمراسلين، أوفدتهم أجهزتهم ومؤسساتهم الإعلامية من مختلف أقطار المعمور لرصد وتسجيل هذا الحدث، الذي اكتسى بعدا عالميا، وتغطية تفاصيله.
حجت إلى المعبر الجماهير الفلسطينية عن بكرة أبيها من مختلف مدن وقرى القطاع لاستقبال زعيمها العائد استقبال الأبطال .
في الساعة الثالثة من بعد الظهر، بالتوقيت المحلي، كان عرفات، عدو إسرائيل اللدود، يعبر بوابة الحدود مع مصر، فخر ساجدا على الأرض، يقبل تراب فلسطين، قبل أن يصلي ركعتين شكرا لله، وسط فرحة عارمة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين غطوا الفضاء المحيط بالمعبر، في وقت كان فيه العالم يتابع عبر شاشة التلفزيون تلك المشاهد السريالية.
جماهير غفيرة اشرأبت أعناقها متلهفة لرؤية قائدها الرمز ، فكانت لحظات مفعمة بالعواطف الجياشة والمشاعر الصادقة التي عبرت عنها تلك الجماهير بشتى أساليب التعبير : بالهتاف وبالزغاريد والتلويح بالأعلام الفلسطينية ورفع صور الزعيم العائد… كانت الطريق إلى مدينة غزة (نحو 35 كلم) مزدانة بالأعلام الفلسطينية وبصور عملاقة للزعيم “أبو عمار” معتمرا كوفتيه الشهيرة. كان عرفات، من فتحة سطح سيارته، يلوح بيديه إلى الجماهير، التي أبت إلى أن ترافقه ركضا على الأقدام مسافات طويلة على الطريق المؤدي إلى مدينة غزة.
غير بعيد عن جنبات الطريق، كانت تقف دوريات الجيش الإسرائيلي، لحماية المستوطنات الإسرائيلية، التي تقطع أوصال القطاع. بعد وصول موكبه إلى قلب مدينة غزة، اكتظ ميدان الجندي الـمجهول بعشرات الآلاف من المتعطشين إلى رؤية الزعيم العائد، وتسلق مئات الشبان الأشجار وأسطح المنازل والبنايات العمومية، ليتمكنوا من رؤية ذلك الفدائي العائد من المنفى ..القائد الذي يرمز، في أعينهم، إلى الإنعتاق واستعادة الحرية التي سلبتهما منهم دولة الاحتلال.
ما أن ظهر على الـمنصة التي نصبت وسط تلك الساحة الكبيرة حتى اندفع الجمهور كالموج الهادر نحوه، محطما الحواجز، كاسرا سياج الحراسة من حوله.
والواقع، أن انفجار تلك المشاعر الجياشة التي كان يعبر عنها الفلسطينيون بتلقائية، على اختلاف مشاربهم وفئاتهم العمرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إنما كانت تمثل شيئا واحدا ، هو أن الكل كان يرى في عودة عرفات، بارقة أمل من أجل التحرر من القهر الإسرائيلي، في أفق إقامة كيان فلسطيني مستقل عن إسرائيل التي خطفت منهم أرضهم وكرامتهم في غفلة من الزمن، وتحت ضغط مؤامرات دولية ومحلية سجلها التاريخ وكشفها الزمن.