زايوتيفي.نت / اسماعيل الحلوتي
في تلك الحقبة الذهبية من تاريخ المغرب المستقل، كانت لنا نحن شباب جيل الستينات والسبعينات حتى الثمانينات، إلى جانب اهتمامنا الشديد بتحسين مستوياتنا التعليمية عبر الجد والمثابرة والتحصيل، هوايات أخرى نمارسها في أوقات الفراغ، لاسيما خلال العطل الأسبوعية والمدرسية أو الجامعية، فكانت لنا ميولات مختلفة، منها المسرح والسينما والمطالعة والسباحة وكرة القدم والصيد… وهي ممارسات تساهم في خلق المتعة والراحة النفسية، وتجديد النشاط الذهني وصقل المواهب، واكتساب المعارف والمهارات، وتعزيز القدرات الفكرية والبدنية، تطوير الذات وتقوية الشخصية…
ولأن الصيد سواء منه البري أو البحري في ذلك الزمن الجميل، لم يكن يختلف كثيرا عن باقي الهوايات الأخرى الثقافية والفنية والرياضية، ولم يكن يكلف صاحبه من أبناء الطبقات الفقيرة عدا اقتناء أدوات ومستلزمات بسيطة، لا يتعدى ثمنها دريهمات قليلة بعدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين معا في أقصى الحالات، فإنني كنت واحدا من أبناء الدرب المولوعين بحب المغامرات والصيد بنوعيه.
والصيد مصدر من الفعل الثلاثي صاد، يصيد صيدا، وصاد الطير ونحوه من الحيوان والسمك: قنصه أو أمسكه، سواء لغرض التجارة أو الرياضة أو الأكل أو المتعة، باستخدام وسائل مختلفة كالفخاخ والشباك والصقور والكلاب والأسلحة النارية. وحيث أن الصيد البري، من أعرق الهوايات التي مارسها العرب قديما ببراعة ودراية، وألفوا حوله عدة مؤلفات. لم يكونوا يعتبرونه حرفة كباقي الحرف الأخرى، وإنما هواية محبي الفروسية والرحلات البرية والمتعة الشخصية، وهو ما جعلهم يهتمون بتربية الصقور من حيث التأديب والترويض والمراقبة، توفير الطعام الجيد والعلاج اللازم، حتى تكون جاهزة لمواسم القنص. فقد تضاعف شغفنا بهذه الرياضة/الهواية، غير أننا كنا نكتفي بصيد الطيور معتمدين على الفخاخ والشباك والأقفاص، حرصا على سلامتها وحتى يتيسر بيعها مباشرة كلما كنا في حاجة ملحة إلى المال، أو تربيتها في أقفاص خاصة فوق سطوح بيوتنا، والسهر على العناية الجيدة بها لتتوالد وتتكاثر.
والمفارقة الكبرى أنه بينما نحن جيل تربى على البساطة في الأكل والملبس والحلاقة والألعاب، وتشبع بأشعار محمد فؤاد نجم ومحمود درويش وعبد الرفيع الجواهري، وأغاني أم كلثوم ونعيمة سميح وعبد الحليم حافظ وناس الغيوان وعبد الهادي بلخياط، جيل عاش على احترام الوالدين وكبار السن والمعلمين والأساتذة، واستمر في الحفاظ على التقاليد والعادات وتوطيد علاقات الأخوة والصداقة… فوجئنا بظهور جيل جديد ومغاير، حيث لم نكن نتوقع أن يأتي علينا يوم تنقلب فيه المفاهيم.
ففي ظل ما عرفه العالم من تحولات وتطور، وعلى إثر الثورة العلمية والتكنولوجية، حدثت قفزة نوعية في وسائل الاتصال والتواصل عبر الشبكة العنكبوتية، وظهرت حواسيب متقدمة وهواتف نقالة ذكية، فتخلى الكثير من جيل المستقبل الذي يعتبر دعامة أساسية في بناء المجتمع وحضارته، عن عديد الهوايات المثمرة والكثير من القيم والعادات والتقاليد القديمة، وأصبح الفضاء الأزرق يشغل حيزا واسعا من اهتماماته، وباتت السمة الملازمة لبناتنا وأبنائنا هي تلك الإطلالة اليومية على العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، المتمثلة في الفيسبوك والتويتر والمسنجر والإنستغرام وعناوين أخرى…
وإذا كان بعض شبابنا عرفوا كيف يستغلون « الفيسبوك » في الاتجاه الإيجابي كمكون اجتماعي، عبر تبادل الأفكار والمعلومات والمعارف، ومناقشتها بشكل راق وحضاري، والانشغال بالمواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية والرياضية، وكل المواضيع التي لها راهنيتها في الساحة المحلية والإقليمية والعالمية، ففي المقابل هناك فئات واسعة من الشباب تتراوح أعمارهم ما بين 18 و27 سنة، عوض اهتمامهم بالجوانب المضيئة في « الفيسبوك » واستثماره في تطوير الذات واكتساب مهارات التواصل وتبادل الخبرات وربط علاقات اجتماعية واكتشاف أحدث الاختراعات والمستجدات في العالم، وممارسة هوايات حديثة وذات جدوى والاندماج في المحيط الثقافي الإلكتروني، انصرفوا عن الدراسة والأشغال اليومية المفيدة وأدمنوا على تبديد أوقاتهم في التفاهات. إذ ضربوا لأنفسهم جدارا عازلا عن أفراد الأسرة والجيران، وانساقوا خلف ثقافات غريبة زعزعت عقائد الكثيرين منهم وخربت عقولهم، ولا تنتج عدا المتطرف والمنحرف لما تنشره من أفكار ظلامية وصور وأفلام إباحية…
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الزوغان، بل تعداه إلى فظاعات أخرى كالمس بأعراض الناس والتشهير بهم، الابتزاز الجنسي وإثارة الفتن والمزايدات السياسوية. بيد أن ما يستغرب له حقا هو ظهور « صيد » جديد مخالف للذي تحدثنا عنه في مطلع هذه الورقة، وهو ما أسميناه ب »الصيد الفيسبوكي ».
وهو الصيد الذي لا يتطلب مصائد وأقفاصا ولا قصبات وسنارات، ولا صقورا وكلابا وأسلحة نارية، وإنما يقتضي فقط فتح حساب ب »الفيسبوك » تحت اسم مستعار مرفوق بصور ذات جاذبية، ومن ثم ينطلق البحث عن اصطياد الضحايا، الذين غالبا ما ينتمون إلى فئة الرجال المسنين، حيث ترسل لهم دعوات الإضافة إلى قوائم الأصدقاء، وما إن يتم بلع « الطعم » حتى تنطلق رحلة الاستدراج بشتى وسائل الإغراء والتغنج، وبخفة غير مسبوقة توجه لهم « رصاصات » سحرية، من تصبه يبعث فورا بمساعدات مالية أو ببطاقات تعبئة وهو الطلب الأكثر تداولا، ومن تخطئه يسارع إلى عملية الحذف…
إن « الصيد الفيسبوكي » ليس سوى مظهرا من مظاهر إفلاس منظومتنا التعليمية، وإخفاق السياسات الحكومية في النهوض بجيل المستقبل، ومهما قلنا لن يكون بمقدورنا تنبيه المسؤولين إلى أزمة الشباب، بشكل أفضل مما ظل يؤكد عليه الملك محمد السادس في عدة مناسبات من ضرورة الالتفات إلى الوضع المزري للشباب، الذي يعتبر الثروة الحقيقية للبلاد، ويوصي دوما بإيلائه العناية اللازمة وانتشاله من براثن الإهمال والهدر المدرسي والبطالة والحرمان من ولوج الخدمات الاجتماعية الأساسية…