محمد شركي / زايوتيفي
يبدو في هذا الزمان أن علماء الأمة المسلمة، وهم ورثة الأنبياء لم يعد لهم تأثير فيها، ويبدو أنها تسير نحو مصير مجهول وخيم العواقب باعتبار مؤشرات شاهدة على ذلك، منها حالة التفكك الكبير وغير المعهود التي تمر بها . ولم يعد يوجد فيها أثر لما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . إن انعدام التداعي لشكاة شعوب الأمة المسلمة وما أكثرها دليل ومؤشر على انعدام ما به تكون هذه الأمة أمة ،وهي المودة والرحمة والعطف .
فالمودة درجة عالية من المحبة تدل على شد القرب بين المتحابين ، وقد ورد ذكرها في قول الله عز وجل في سياق الحديث عن العلاقة الزوجية لما في هذه العلاقة بين الأزواج من تقارب كبير : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )) .
وأما الرحمة فهي شعور بالشفقة على المرحوم والتألم والتوجع له إذا أصابه مكروه والرفق به ، وهو شعور يكون أيضا بين من تجمعهم أشد الأواصر متانة كالعلاقة الزوجية كما جاء في الآية الكريمة .
وأما العطف فهو الميل بين المتعاطفين ومعاملة بعضهم البعض بالرفق واللين والرقة .
إن انعدام ثالوث المودة والرحمة والعطف الذي اشترطه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين مؤشر ودليل على خفوت الإيمان في أمة الإسلام في هذا الزمان . والذي يؤكد ذلك بما لا يدع مجالا للشك أو التشكيك أو النفي أو التكذيب ،هو انعدام التداعي بين شعوب هذه الأمة وهو استجابة بعضهم لبعض ، أو دعوة بعضهم البعض للاجتماع حين يقتضي الأمر ذلك . ولا يوجد ما يقتضي اجتماع هذه الشعوب أو يدعو إلى ذلك مثل ما هو موجود في هذا الزمان من فرقة ،وتمزق، وتشتت أمر بل و عداوة ، وتناحر ،واقتتال ، وموالاة للأعداء على حساب الأخوة والشماتة بها … إلى غير ذلك من الأوصاف الدالة على انقطاع التواصل بين أعضاء الجسد الواحد كما يحصل ذلك تحت تأثير التخدير .
فالإخوة في فلسطين المحتلة لهم شكاة وهم في سجون كبرى في الضفة والقطاع وقد أفردوا فيها وعزلوا عزلة تامة ، وداخل هذه المعتقلات الكبرى المعزولة عن العالم برا وبحرا وجوا توجد معتقلات صغرى في أحياء وحارات ،فضلا عن السجون والمعتقلات المعروفة ، ولا يحصل التداعي من خليج العرب إلى محيطهم ولا من جاكرتا إلى طنجة، ذلك أنه حين كانت الأمة ت مشغولة بمباريات المونديال كان الكيان الصهيوني يمطر الفلسطينيين المحاصرين في قطاع عزة بالقنابل الحارقة التي تدك فوق رؤوسهم مساكنهم لأنه على علم بأنه لم يعد يوجد شيء يسمى التداعي بالسهر والحمى في جسد هذه الأمة المنهار.
ويشكو الإخوة في الشام المحروق وقد سويت بناياته بالأرض فوق رؤوسهم بفعل قصف الطيران الروسي والأمريكي والصهيوني وبراميل النظام الدموي المدمرة والحارقة ،ولا يحصل في الأمة شيء اسمه التداعي بل يتداعى عليهم أبناء جلدتهم مع الروس والأمريكان والصهاينة والنظام الدموي إشباعا للحقد الطائفي المقيت ، والمتوارث عبر قرون في القلوب المريضة .
ويشكو الإخوة في اليمن وليبيا والعراق ومصر… ولكل شكاته من ظلم ناله ، وهو في الغالب ظلم القرابة الأشد مضاضة ، ولا من يتداعى ، ولا من يجيب .
وهناك في أقصى الشرق في ميانمار ترتفع أصوات الإخوة الروهينغا بالشكاة ، ولا من يجيب، ولا من يتداعى ، ولا حمى ولا سهر في جسم الأمة المخدر تخديرا.
والله أعلم بأنواع وأصناف من الشكاة في طول وعرض بلاد الإسلام والتي لا تسمع ولا تصل إلى الأمة بالرغم من تحول العالم اليوم إلى قرية صغيرة بسبب انتشار تكنولوجيا ووسائل التواصل التي صارت تنقل كل أنواع العبث ، ولا تنقل شيئا من شكاة الأمة هنا وهناك ، ولا تلعب دورا في حصول التداعي كما تلعبه في حصول اللامبالاة والعبث العابث .
وعند التأمل نجد أن سبب غياب التداعي بين أعضاء جسد الأمة المسلمة هو غياب قيادة العلماء ورثة الأنبياء لها ،وخفوت أصواتهم ، وهجران الأمة لهم هجرا . ولقد رحل منهم من رحل عن هذه الدنيا ، وغيب وسجن منهم من سجن ، وأخرس منهم من أخرس ، وهدد منهم من هدد ، واعتادت الأمة على سيرها الشارد دون علماء يوجهونها ، وأسلست قيادها لجهال مغرضين مستأجرين لإفسادها يقودونها نحو مجهول وخيم العواقب .
ولقد صار العلماء اليوم موضوع تندر وسخرية واستهزاء الأمة وهي تحت تأثير غفلة غير مسبوقة ، وانشغل من بقي منهم في خلافات هامشية يعيب بعضهم بعضا ، وينتقد بعضهم بعضا ، وهم بذلك يعمقون هوة انعدام التداعي بين أعضاء جسد هذه الأمة المخدر مع اشتداد شكاتهم ، وانعدمت الثقة فيما بينهم ، وراج بينهم خطاب التخوين والاتهام ، وصار الحكام يسيرونهم وفق أهوائهم تخويفا وترهيبا أو استمالة وشراء ذمم ،ففقدت الأمة الثقة فيهم وفي علمهم ، ولم تعد لهم ريادة ولا قيادة ولا أثر ولا تأثير ، وحتى الصادق المخلص منهم لم يعد محل ثقة لما لحق سمعة العلماء عموما من طعن وقدح وشك وتشكيك وتخوين.
وفي ظرف خفوت أثر العلماء وتأثيرهم وضياع قيادة الأمة منهم حل محلهم الفتانون المغرضون والمأجورون من ذوي التوجهات الدخيلة المنحرفة ،الذين صاروا يجادلونهم في أمور الدين بغير علم بل بأهوائهم ليستملوا سواد الأمة وقد بعد عهدهم بالعلم والعلماء ، وتطبعوا على حياة لا أثر للدين فيها سوى تقاليد تمارس ولم يعد يعرف للدين معنى أو مغزى أو حكمة . وسوّي الجهّال عند سواد هذه الأمة بالعلماء ، فصاروا عندهم سواء ، وصار التجاسر على أهل العلم عادة ودأبا ، وصار التشكيك منتشرا وسائدا في قديمهم وحديثهم ، وبدأ الحديث عن بدائل عنهم من جهّال ضالين مضلين استباحوا المحارم ، ورخصوا الرخص في الممنوع والمحظور، وما بقي من العلماء جلهم صامت ساكت حيث لا يحسن السكوت ، والصارخ منهم لا يكاد يسمع صوته ، ولا ينصت إليه، ولا يصدق ،ولا يطاع. فما أشبه الأمة اليوم بقطعان بلا رعاة .
ولا مندوحة لهذه القطعان الضالة عن التماس رعاتها في علماء عاملين صادقين ينقذونها من مصير مجهول وخيم العواقب . ولا مندوحة أيضا لهؤلاء العلماء من الصمود والثبات في هذا الزمان، وتحمل ما تحمله السابقون من محن من أجل هذا الدين. وعلى الذين ينصبون أنفسهم لقيادة جماعات أشتاتا ويكرسون الفرقة في الأمة بأهوائهم أن يتخلوا عن ذلك لشناعته وخطورته ، وأن يخلوا بينها وبين علماء الأمة العاملين الصادقين المخلصين الذين لا يدعون إلى طوائف أو جماعات ، ولا يريدون زعامة أو قيادة ، ولا يقايضون الدين بعرض الدنيا لتوجيهها التوجيه الصحيح ولعلاجها من فقدان مناعة التداعي قبل وقوع الطامة الكبرى وقد بدأت بوادرها بما صار يعرف بصفقة القرن ، وهي صفقة يراد بها الإجهاز على مقدسات الأمة ، وعلى هويتها ، وعلى مناعتها ليسود الأرض فساد عبدة العجل وقادحي زناد الحروب ومشعليها ومروجي الفتن ما ظهر منها وما بطن . ولن يمنع هذه الصفقة المشئومة سوى علماء عاملون يستطيعون إعادة الأمة إلى عافيتها ليسري التداعي بين أعضائها كما كان الأمر عند سلفها، وكما جاء ذلك في وصف رسولها صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما .